Saturday, December 27, 2014

حدث ذات مرة في الأناضول ومرثية بيلجي للحضارة والإنسانية



كتبت: رشا حسني
يقول نوري بيلجي سيلان أن عمل المخرج مختلف عن عمل الصحفي، فالمخرج يتوجه إلى روح المشاهد، فإذا استطعت في أفلامي أن أحقن بعض المشاعر في روح الأشخاص، أكون قد نجحت بالفعل. وإذا استطاعوا أن يتعلموا الخجل من بعض الأفعال، فيكون ذلك نجاحاً أيضا.
من هذه الجملة يمكن أن أنطلق للحديث عن رائعة المخرج التركي نوري بيلجي سيلان "حدث ذات مرة في الأناضول 2011" فكل ما يقدمه بيلجي في هذا الفيلم أو من خلال أفلامه الأخرى ما هي إلا إنعكاساً واضحاً لإيمانه العميق بتلك المقولة، فا يعطي بيلجي إهتمامه الأكبر أثناء صناعة عمله للتأثير القوي والمباشر علي المُشاهد وهو ما يقوده إلي تطويع أدوات الوسيط السينمائي والتي يتقنها تماماً لخدمة هذا الهدف.

ينتمي فيلم حدث ذات مرة في الأناضول إلي نوعية أفلام دراما الإثارة والغموض بالإضافة إلي أنه من الممكن اعتباره Road Trip Movie نظراً لأن معظم أحداثه تدور علي الطريق في سبيل البحث عن الجثة ولكنه لا يشبه أياً منها نظراً لتميز إسلوب مخرجه والذي تميزه بعض من السمات والتي يُجيد تضفيرها في عمله السينمائي. الفيلم يتناول قصة غاية في البساطة من خلال رحلة بحث عن جثة يقوم بها بعض أفراد الشرطة والمفتش العام للبلدة بالإضافة إلي الطبيب الذي سيقوم بفحص الجثة وتشريحها فيما بعد، تبدو كما ذكرت القصة بسيطة ظاهرياً ولكن ما أعطي للقصة أهمية بالغة هو صياغة وسرد نوري بيلجي للقصة بصرياً من خلال أدواته السينمائية.

لكل مخرج طابعه وأسلوبه في تناول موضوعاته وهمومه التي يحاول طرحها من خلال أفلامه وما يتضح لنا من متابعي سينما بيلجي هو إهتمامه الشديد بالنفس البشرية وما يعتريها من سكون ظاهري في حين تعتري دواخلهم صراعات إنسانية تهزمها قسوة الحياة اليومية وقسوة الحياة بصفة عامة، فيما يحاول من خلال أفلامه الوصول لدواخل النفس البشرية المعقدة من خلال مزيد من الواقعية في التناول حتي أنه قد استعان بوالديه في أحد أفلامه للوصول للمزيد من الواقعية.

تتميز أفلام بيلجي بالطول النسبي فيتراوح زمن الفيلم إلي أكثر من ساعتين ونصف الساعة وقد يشعر المشاهد ببعض الملل في الساعة الأولي من الفيلم وربما فيما بعد ذلك إلا أنه ومع الانغماس في أحداث الفيلم يتبدد ذلك الشعور كلياً خاصة مع تدفق الأحداث وإن كان يتسم ببعض الهدوء لا البطئ.

يبدأ فيلم حدث ذات مرة في الأناضول حين تنتهي أحداثه فعلياً ليكتشف المُشاهد أن عليه أن يُعيد مشاهدة الفيلم مرة أخري وربما أكثر من مرة ليكتشف ماذا حدث وما الذي أفضي إلي تلك النهاية الغامضة أو المفتوحة لكي يكتشف المزيد من خلال المشاهد الحوارية التي عبرت ذهنه دون شئ من التركيز وأن يعي ما بها من صلة وثيقة بروح العمل – روح بلجي- وروح قصة العمل وهي الجريمة والكشف عن الجثة، ليكتشف أن مشاهد الطبيب والمفتش العام ما هي إلا انعكاساً لما بداخلهما فيظل المفتش يتحدث للطبيب عن سيدة ويظل يسأله عن أمكانية أن يقرر الإنسان ميعاد موته باختياره ونحن لا نعلم ما علاقة ذلك الحديث بالقصة الرئيسية إلي أن شيئاً فشيئاً نكتشف أن هذه السيدة هي زوجة المفتش العام.

يظل بيلجي يربطنا بسيناريو الفيلم ويعمق إحساسنا تجاهه وتجاه شخصياته شيئاً فشيئاً من خلال كشف تفصيلة أو عرض معلومة عن الجريمة أو عن طبيعة شخصيات الفيلم الرئيسية علي مدار الفيلم ويتشابه بيلجي في انتهاج هذا الإسلوب السردي مع المخرج اٌيراني أصغر فرهادي والذي تتميز معظم أعماله بنفس الصفة وهو إسلوب سردي يُراد به توصيل فكرة أنه لا توجد حقيقة مُطلقة أو واضحة ولا توجد ثوابت وليس كل شئ كما يبدو عليه ظاهرياً فكل فعل يحوي بداخله مئات التأويلات.

يرثي بيلجي التاريخ من خلال رثائه للأناضول القديمة بروعة إظهارها من خلال لقطاته البانورامية الواسعة التي تُظهر أن العاصمة التاريخية القديمة قد فقدت روحها مع أنه لازالت تحتفظ بجمالها وان كان باهتاً بعض الشئ، فيبرع بيلجي في استخدامه لتلك اللقطات البانورامية الواسعة كي يعمق من إحساس المشاهد بالمكان بل لتوطين وتأصيل المكان بداخله وان كان لا ينتمي له. فمن خلال أحداث الفيلم يحاول بيلجي أن يجعلنا نربط ما بين العاصمة القديمة بتاريخها وحضارتها وعراقتها وما بين ما آلت إليه من تهاوي وانحدار إنساني قاد إلي انحدار تاريخي فنري في مشهد العثور علي الجثة ومعاينتها فقر شديد ليس فقط في الإمكانيات ولكن أيضاً في طريقة التعامل مع الحدث إلي جانب البيروقراطية الشديدة والجهل بطريقة التعامل مع الموقف فالموظف المسئول عن كتابة محضر العثور علي الجثة لم يحضر جهاز الكمبيوتر المحمول معه والأخر المسئول عن إحضار كيس للجثة لم يحضره ويلقي باللوم علي موظف أخر.


ويتعمق ذلك الإحساس بمزيد من الآسي عند الحديث عن الأموات وكيف تحولت إحدي قري الأناضول القديمة عن قرية مقفرة يعجز سكانها عن حماية أمواتهم من فضلات الحيوانات بل وتتعفن جثث موتاهم لعدم وجود ثلاجة حفظ للموتى الذين في إنتظار ذويهم للحضور بعد أن هجروا القرية والمدينة كلها بحثاً عن سبلاً أخري للعيش.

فيما يرثي بيلجي الإنسانية أيضاً من خلال عدم اكتراث المفتش العام ربط التوفي بنفس الطريقة الوحشية التي وجدوه مربوطا بها بحجة أنها الطريقة المثالية لوضعه بإحدى السيارات فيما يطلق النكات ويشبه المتوفى بالممثل كلارك جيبيل ويتبادل الموظفون الضحكات دون إظهار أدني جانب إنساني في التعامل مع الموقف.

يُقدم بيلجي معادلاً بصرياً موضوعياً للسيناريو من خلال فحينما تكون الحقيقة غائبة وغير معروفة ومساحة التيه وعد التحقق من الحادثة أو وجود الجثة هي السمة الغالبة علي السيناريو يتسم المشهد باللقطات الواسعة في الأماكن المفتوحة في حين عند البدء في التوصل لفك اللغز والعثور علي الجثة تبدأ اللقطات في التركيز علي الوجوه والتعبيرات من داخل أماكن تصوير كالمستشفي وحجرة التشريح في محاولة لتقريب المشاهد من لحظة كشف الحقيقة والوصول لها وبالتالي لانتهاء الفيلم ليصل إلي أخر مشاهد الفيلم معلناً بيلجي بداية جديدة للفيلم خلفها مئات الحكايا التي من السهل لذهن المشاهد نسجها.

إلا أنه وبالرغم من كل هذا الرثاء فيظل مشهد ظهور جميلة الجميلة فعلاً من خلال تقديم بيلجي له من أجمل مشاهد السينما علي الإطلاق والتي ستظل عالقة في وجدان مشاهد الفيلم حتي وان كان لا يتواصل مع الفيلم، فتظهر جميلة بعد انقطاع الكهرباء بهالة نور تحيطها تذكرك بتلك الأيقونات القبطية التي تصور السيدة مريم العذراء أو سيدنا عيسي وحولهم تلك الهالة النورانية العذبة لتمر علي الجالسين واحداً تلو الأخر كي يحي جمالها بداخل كلاً منهم علي حدا المنطقة المنيرة المنزوية بداخلها كي تذكر كل واحداً فيهم بما يخفيه أو تناساه أو حتي أهمله عن عمد كما لو كان يريد أن يقول أن بعد كل أفول لابد من صحوة وبعد المزيد من القبح لابد من بقعة أمل تحمل معها بقعة نور.



Wednesday, December 24, 2014

ايدا... وتحقيق المعادلة الصعبة


ايدا... وتحقيق المعادلة الصعبة
كتبت: رشا حسني
منذ الدقائق الأولي لفيلم ايدا ويتضح للمشاهد أنه ليس أمام فيلماً عادياً ولكنه بصدد مشاهدة فيلماً متميزاً خاصة علي صعيد الصورة وتكوينها وما تحمله من مضامين تخدم كلياً قصة الفيلم وفكرته البسيطة جداً والتي برعت ريبيكا لينكفيتش في سردها من خلال السيناريو وأيضاً المخرج باول باولوفيسكي في سردها بصرياً علي مدار الفيلم.
الفيلم يتناول قصة انا التي تكتشف مع قرب تقديمها لنذورها الكنسية استعداداً لرهبنتها من المشرفة علي الكنيسة بأنها لابد أن تزور خالتها التي لم ترد علي أي من رسائل الكنيسة لها، ثم بالفعل تذهب ايد لخالتها وتلتقي بها في منزلها لتكتشف سراً لم يستطع لا عقلها ولا تكوينها الكنائسي البسيط أن يتحملاه وهو أنها ليست آنا بل هي ايدا فتاة يهودية أو من أصل يهودي تم اضطهاد وقتل والديها أثناء أحداث الحرب العالمية الثانية وما حملته لليهود من تعذيب وإبادة، لتبدا ايدا مع خالتها رحلة البحث ليس فقط عن رفات الأهل وإنما رحلة بحثها عن ذاتها وعما تريده من الحياة وعما تريد أن تفعله.
المشهد الافتتاحي
يعتبر المشهد الإفتتاحي في مدارس السيناريو التقليدية والحديثة مشهداً من أهم مشاهد الفيلم إن لم يكن أهمها علي الإطلاق، فهو المشهد الذي يمهد لذهن المشاهد كل ما ستلقاه من أحداث وشخصيات وكلما احتوي المشهد الإفتتاحي علي تفاصيل تخدم السيناريو وشخصيات وتُظهر من أبعادها الكثير كلما كان مشهداً ثرياً سردياً وبصرياً.
المشهد الإفتتاحي لفيلم ايد يوضح قيام ايدا بتنظيف وتجهيز تمثال المسيح كي تضعه هي وزميلاتها داخل حفرة بفناء واسع يكسوه الثلج أمام الكنيسة التي تنتسب لها ايدا ومن خلال بضع لقطات قصيرة لايدا نستطيع أن نستشف مدي اقتناع ايدا بما تفعله ونستشف أيضاً لمسة روحانية ولو بسيطة أثناء قيام ايدا بطقوسها الكنسية الرتيبة والمعتادة، فاايدا هي فتاة مسيحية تتأهب لتقديم نذورها كي تُعتمد راهبة.
ومن خلال اللقطات الأولي للفيلم يتضح إسلوب السرد البصري الذي اختاره المخرج باول باولكوفسكي لسرد قصة ايدا من حيث اختيار الحجم التقليدي والكلاسيكي للكادر بما يعطي انطباعا لا شعورياً بتوافق إسلوب السرد البصري مع الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الفيلم وهي فترة الستينات ببولندا عقب أحداث الحرب العالمية الثانية. وأيضاً إختياره لوضع الممثلين داخل الكادر والذي كان دائماً في ثلث الكادر إما الأيمن أو الأيسر ربما للتدليل علي عزلة من بالكادر أيا كان هو أو هي عما حوله من مفردات حياتية وانشغاله بالتفكير في ما يهمه هو فقط، فكل شخصية من شخصيات الفيلم المعدودة منعزلة داخلها داخل أزمة نفسية أو وجودية تشغلها هي وفقط فمثلاً الخالة تنعزل داخل ما حدث لها ولعائلتها من النازيين وابنها التي فقدته وهو طفل ومدي الفقد والسوء الذي تشعر بهما بعد انغماسها في نظام كانت تناهضه دائماً وفي اسلوب حياة قررت أن ترفضه بعلاقات عابرة مع رجال ربما حتي لا تعرفهم والانغماس في ملذات حسية بُعداً عن كل ما يدفعها للتفكير إلي أن تجد قاتل أسرتها وابنها لتأخذ رفاتهم وتدفنهم بمدافن الأسرة ثم تتخذ قرار الإنتحار كدليل علي عدميتها وعدمية وجودها بعد ذلك فلم يعد وجودها علي قيد الحياة مُرضياً لها بأي شكل من الأشكال.



ثبات الكاميرا في أغلب مشاهد الفيلم إن لم تكن كلها فيما عدا أخر مشهد بالفيلم المشهد الذي يبدو ظاهرياً من خلاله أن ايدا قد تخيرت شكل حياتها وكيف تريد أن تحياها فظللت تتخبط في سيرها حتي اتخذت خطاً واحداً للسير كالذي استقر علي قرار وأسلوب حياة وكمن وجد هدفاً للعيش، بالإضافة إلي الموسيقي التي تنبع من دراما الفيلم ولأول مرة كما لو أنها تعلن عن بدأ الرحلة الأهم لايدا كما أنها أتت احتفالاً بقدرة ايدا علي اتخاذ قرارها المصيري والوجودي.
المضمون الوجودي
ايدا هو نموذج سينمائي فريد وممتع لطرح قضايا تصل لحد الفلسفية والوجودية من خلال إسلوب سردي متقن في تدفق المعلومات التي يحتاجها المشاهد لربط الأحداث ببعضها والتي تخدم القصة بشكل عام أيضاً، بالإضافة إلي إسلوب فني راقي ورائع يتمتع بالسلاسة والتدفق التي من الممكن أن تصل إلي شرائح عمرية واجتماعية مختلفة فهو لا يشبه أعمال بيرجمان مثلاً بال علي العكس فلقد حقق ايدا المعادلة الفنية الأصعب من خلال تقديمه لتلك القيم الوجودية والفلسفية من خلال قالب فني شديد الرقي والتميز.
خاضت ايدا رحلة بحث في واجهتها هي  رحلة بحث عن رفات الأهل ولكن في باطنها هي رحلة بحث عن الذات عن الهوية بالإضافة إلي كونها رحلة تأصيل لحجم وتوجه الإيمان الذي تتمتع به، رحلة بحث عن ذاتها وعما تريد أن تفعله ولكنها لم تقرر وتختار حتي أقنعت نفسها بأنها خاضت الحياتين معاً الحياة الكناسية المتحفظة الرتيبة الهادئة وحياة خالتها ولكن في واقع المر ايدا لم تجرب بغرض الاكتشاف والتقرير فلقد كان خيارها واضحاً وجلياً أثناء تلك التجربة فهي فقط أخذت القشور من حياة خالتها ولم تنغمس فيها لم تطلق لروحها العيان لخوض التجربة بكل تفاصيلها بل قشورها فقط، مثل كشف شعرها وشربها للخمر ثم خوضها لعلاقة مع العازف الموسيقي والتي لم تشعر لا بها ولا به فقد كانت فاترة باردة تخلو من أية مشاعر فقط لأنها أرادت أن تقنع نفسها بأنها جربت ولكنها لم مقتنعة بما تفعل فلم تحاول البحث عن متعة من خلال ما تفعل لذلك كان يسهل عليها القرار بالعودة للدير أو الكنيسة لممارسة الحياة التي نشأت في رحابها والتي وجدت في غيرها صعوبة في التعود والاقتناع.


الأبيض والأسود
تخير المخرج لوني الأبيض والأسود كي يقدم الفيلم من خلالهما ربما رغبة منه في إضفاء روح العصر والفترة التي دارت بها أحداث القصة وهي فترة الستينات علي الفيلم ولكني أجده خيار من أهم خيارات المخرج الإخراجية علي الإطلاق فهو خيار يتسق تماماً مع مضمون الفيلم وطريقة سرده فقد أراد أن يعبر بل أن يؤكد من خلاله علي الحيرة – وان كنت أراها ظاهرية - التي تعيشها ايدا فهي لا تجد في الدنيا سوي خيارين فقط إما أبيض أو أسود، تلك الطريقة في التفكير والتي فرضتها عليها نشأتها وطبيعة الحياة التي عاشتها داخل الكنيسة. وربما آثر المخرج عدم إلهاء المشاهدين عن قصة الفيلم ومضمونه وجمالياته من خلال زهز الألوان وبهائه فقد أراد لمشاهدي فيلمه فقط أن يكرسوا كل حواسهم من أجل خوض الرحلة مع ايدا وخالتها.