Wednesday, December 24, 2014

ايدا... وتحقيق المعادلة الصعبة


ايدا... وتحقيق المعادلة الصعبة
كتبت: رشا حسني
منذ الدقائق الأولي لفيلم ايدا ويتضح للمشاهد أنه ليس أمام فيلماً عادياً ولكنه بصدد مشاهدة فيلماً متميزاً خاصة علي صعيد الصورة وتكوينها وما تحمله من مضامين تخدم كلياً قصة الفيلم وفكرته البسيطة جداً والتي برعت ريبيكا لينكفيتش في سردها من خلال السيناريو وأيضاً المخرج باول باولوفيسكي في سردها بصرياً علي مدار الفيلم.
الفيلم يتناول قصة انا التي تكتشف مع قرب تقديمها لنذورها الكنسية استعداداً لرهبنتها من المشرفة علي الكنيسة بأنها لابد أن تزور خالتها التي لم ترد علي أي من رسائل الكنيسة لها، ثم بالفعل تذهب ايد لخالتها وتلتقي بها في منزلها لتكتشف سراً لم يستطع لا عقلها ولا تكوينها الكنائسي البسيط أن يتحملاه وهو أنها ليست آنا بل هي ايدا فتاة يهودية أو من أصل يهودي تم اضطهاد وقتل والديها أثناء أحداث الحرب العالمية الثانية وما حملته لليهود من تعذيب وإبادة، لتبدا ايدا مع خالتها رحلة البحث ليس فقط عن رفات الأهل وإنما رحلة بحثها عن ذاتها وعما تريده من الحياة وعما تريد أن تفعله.
المشهد الافتتاحي
يعتبر المشهد الإفتتاحي في مدارس السيناريو التقليدية والحديثة مشهداً من أهم مشاهد الفيلم إن لم يكن أهمها علي الإطلاق، فهو المشهد الذي يمهد لذهن المشاهد كل ما ستلقاه من أحداث وشخصيات وكلما احتوي المشهد الإفتتاحي علي تفاصيل تخدم السيناريو وشخصيات وتُظهر من أبعادها الكثير كلما كان مشهداً ثرياً سردياً وبصرياً.
المشهد الإفتتاحي لفيلم ايد يوضح قيام ايدا بتنظيف وتجهيز تمثال المسيح كي تضعه هي وزميلاتها داخل حفرة بفناء واسع يكسوه الثلج أمام الكنيسة التي تنتسب لها ايدا ومن خلال بضع لقطات قصيرة لايدا نستطيع أن نستشف مدي اقتناع ايدا بما تفعله ونستشف أيضاً لمسة روحانية ولو بسيطة أثناء قيام ايدا بطقوسها الكنسية الرتيبة والمعتادة، فاايدا هي فتاة مسيحية تتأهب لتقديم نذورها كي تُعتمد راهبة.
ومن خلال اللقطات الأولي للفيلم يتضح إسلوب السرد البصري الذي اختاره المخرج باول باولكوفسكي لسرد قصة ايدا من حيث اختيار الحجم التقليدي والكلاسيكي للكادر بما يعطي انطباعا لا شعورياً بتوافق إسلوب السرد البصري مع الفترة الزمنية التي تدور فيها أحداث الفيلم وهي فترة الستينات ببولندا عقب أحداث الحرب العالمية الثانية. وأيضاً إختياره لوضع الممثلين داخل الكادر والذي كان دائماً في ثلث الكادر إما الأيمن أو الأيسر ربما للتدليل علي عزلة من بالكادر أيا كان هو أو هي عما حوله من مفردات حياتية وانشغاله بالتفكير في ما يهمه هو فقط، فكل شخصية من شخصيات الفيلم المعدودة منعزلة داخلها داخل أزمة نفسية أو وجودية تشغلها هي وفقط فمثلاً الخالة تنعزل داخل ما حدث لها ولعائلتها من النازيين وابنها التي فقدته وهو طفل ومدي الفقد والسوء الذي تشعر بهما بعد انغماسها في نظام كانت تناهضه دائماً وفي اسلوب حياة قررت أن ترفضه بعلاقات عابرة مع رجال ربما حتي لا تعرفهم والانغماس في ملذات حسية بُعداً عن كل ما يدفعها للتفكير إلي أن تجد قاتل أسرتها وابنها لتأخذ رفاتهم وتدفنهم بمدافن الأسرة ثم تتخذ قرار الإنتحار كدليل علي عدميتها وعدمية وجودها بعد ذلك فلم يعد وجودها علي قيد الحياة مُرضياً لها بأي شكل من الأشكال.



ثبات الكاميرا في أغلب مشاهد الفيلم إن لم تكن كلها فيما عدا أخر مشهد بالفيلم المشهد الذي يبدو ظاهرياً من خلاله أن ايدا قد تخيرت شكل حياتها وكيف تريد أن تحياها فظللت تتخبط في سيرها حتي اتخذت خطاً واحداً للسير كالذي استقر علي قرار وأسلوب حياة وكمن وجد هدفاً للعيش، بالإضافة إلي الموسيقي التي تنبع من دراما الفيلم ولأول مرة كما لو أنها تعلن عن بدأ الرحلة الأهم لايدا كما أنها أتت احتفالاً بقدرة ايدا علي اتخاذ قرارها المصيري والوجودي.
المضمون الوجودي
ايدا هو نموذج سينمائي فريد وممتع لطرح قضايا تصل لحد الفلسفية والوجودية من خلال إسلوب سردي متقن في تدفق المعلومات التي يحتاجها المشاهد لربط الأحداث ببعضها والتي تخدم القصة بشكل عام أيضاً، بالإضافة إلي إسلوب فني راقي ورائع يتمتع بالسلاسة والتدفق التي من الممكن أن تصل إلي شرائح عمرية واجتماعية مختلفة فهو لا يشبه أعمال بيرجمان مثلاً بال علي العكس فلقد حقق ايدا المعادلة الفنية الأصعب من خلال تقديمه لتلك القيم الوجودية والفلسفية من خلال قالب فني شديد الرقي والتميز.
خاضت ايدا رحلة بحث في واجهتها هي  رحلة بحث عن رفات الأهل ولكن في باطنها هي رحلة بحث عن الذات عن الهوية بالإضافة إلي كونها رحلة تأصيل لحجم وتوجه الإيمان الذي تتمتع به، رحلة بحث عن ذاتها وعما تريد أن تفعله ولكنها لم تقرر وتختار حتي أقنعت نفسها بأنها خاضت الحياتين معاً الحياة الكناسية المتحفظة الرتيبة الهادئة وحياة خالتها ولكن في واقع المر ايدا لم تجرب بغرض الاكتشاف والتقرير فلقد كان خيارها واضحاً وجلياً أثناء تلك التجربة فهي فقط أخذت القشور من حياة خالتها ولم تنغمس فيها لم تطلق لروحها العيان لخوض التجربة بكل تفاصيلها بل قشورها فقط، مثل كشف شعرها وشربها للخمر ثم خوضها لعلاقة مع العازف الموسيقي والتي لم تشعر لا بها ولا به فقد كانت فاترة باردة تخلو من أية مشاعر فقط لأنها أرادت أن تقنع نفسها بأنها جربت ولكنها لم مقتنعة بما تفعل فلم تحاول البحث عن متعة من خلال ما تفعل لذلك كان يسهل عليها القرار بالعودة للدير أو الكنيسة لممارسة الحياة التي نشأت في رحابها والتي وجدت في غيرها صعوبة في التعود والاقتناع.


الأبيض والأسود
تخير المخرج لوني الأبيض والأسود كي يقدم الفيلم من خلالهما ربما رغبة منه في إضفاء روح العصر والفترة التي دارت بها أحداث القصة وهي فترة الستينات علي الفيلم ولكني أجده خيار من أهم خيارات المخرج الإخراجية علي الإطلاق فهو خيار يتسق تماماً مع مضمون الفيلم وطريقة سرده فقد أراد أن يعبر بل أن يؤكد من خلاله علي الحيرة – وان كنت أراها ظاهرية - التي تعيشها ايدا فهي لا تجد في الدنيا سوي خيارين فقط إما أبيض أو أسود، تلك الطريقة في التفكير والتي فرضتها عليها نشأتها وطبيعة الحياة التي عاشتها داخل الكنيسة. وربما آثر المخرج عدم إلهاء المشاهدين عن قصة الفيلم ومضمونه وجمالياته من خلال زهز الألوان وبهائه فقد أراد لمشاهدي فيلمه فقط أن يكرسوا كل حواسهم من أجل خوض الرحلة مع ايدا وخالتها.