Saturday, January 10, 2015

الخروج للنهار ........ فى عشق ولعشق السينما


رشا حسنى

الخروج

هو فعلاً خروج، خروج عن كل ما هو سائد ومستساغ ورتيب بل وممل فى السينما سواءاً فى آليات صناعتها أو حتى فى طريقة تلقيها ففيلم مثل الخروج للنهار يحتاج بالطبع لطريقة خاصة فى تلقيه ومُشاهد لديه الحد الأدنى من الرغبة فى الإستمتاع بالفيلم بشكل مختلف وذلك من خلال مشاركته لصانعى العمل بإنغماسه ذاتياً وإرادياً مع الفيلم وحالته وخصوصيته.


الخروج للنهار لا يُجسد فقط معاناة تلك الأسرة البسيطة المُكونة من الأم الممرضة والإبنة التى لا تعمل وتتفرغ لرعاية أبيها المريض مرضاً مُقعِداً، وإنما يُجسد معاناة الطبقة الوسطى والتى تنتمى إليها هذه الأسرة، من خلال رصده لبعض التفاصيل اليومية البسيطة والمتكررة فى حياة تلك الأسرة وخاصة فى تفاصيل طريقة تعامل الأم والإبنة مع الوالد القعيد فهو محور إهتمام تلك الأسرة والذى يأتى من بعده أى شئ بأى ترتيب فلا يهم ذلك.


دراما الخروج للنهار ليست دراما تصاعدية ذات ذروة تقلب مسار الأحداث وتُغير مسار رحلة البطل، فلم ينتم الخروج للنهار لتلك المدرسة التقليدية فى الكتابة ولكن تدفقت دراما الفيلم بشكل أفقى من خلال سرد تفاصيل الحياة اليومية للأسرة وصولاً لقرب نهاية الفيلم عندما إنتكست حالة الأب ونقلته الأم للمستشفى.


ماوراء المشاهد

أكثر ما يميز الخروج للنهار عن غيره من الأفلام هو تًميز رسم شخصيات الفيلم خصوصاً سعاد والأم فنجد "سعاد" مثلاً رغم فقر العيش وبؤس الحالة ومحنة مرض الأب إلا أنها لازالت تتمسك بالمحافظة على تلك الأواصر القليلة التى تربطها بأنوثتها وجمالها وإحساسها بكونها فتاة كالأُخريات من حقها أن تهتم بنفسها وشعرها ومظهرها بأن تضع مثلا مسحة كريم - زهيد السعر- على يديها بعد أن قامت بغسل بنطلون الأب، أو بذهابها للكوافير لعمل شعرها قبل مقابلتها للشاب والذى سيتهرب من مقابلتها، فلازالت سعاد تتمسك بتفاصيل الحياة العادية رغم أنها لا تحيا من تلك الحياة سوى أقل القليل.

وهو ما نراه مع الأم أيضاً ولكن بشكل أروع فى مشهد من أجمل مشاهد السينما المصرية، عندما أرادت الأم "حياة" أن تُذكر نفسها بأنها لازالت تحيا وعندما أرادات ولو للحظات بسيطة نسيان أو تناسى تلك المحنة الطاحنة فأحضرت الكاسيت بعدما وضعت به شريط لأم كلثوم وذهبت به لغرفة الأب القعيد وفى يدها الأخرى كوب شاى فتقول له "ماتيجى نسمع أم كلثوم" فيومئ لها بعينيه بالموافقة – إيماءة أقل ما توصف به هو أنها رقيقة ومعبرة وحانية وحزينة وجميلة - ثم ترفعه لتساعده على الجلوس فتقربه إليها ويشربا الإثنين من نفس كوب الشاى فجاء صوت أم كلثوم شاديةً "أنا وإنت ظلمنا الحب".

 ولكن ليس وحده الحب من ظلمهم ولكنها الحياة وقسوتها ومراراتها التى باتت لا تُحتمل سوى بمثل تلك اللحظات التى تحاول الأم إختلاسها من خلف ظهر ذاك الزمن القاسى، إستطاعت المُبدعه هالة لطفى من خلال هذا المشهد إبراز ما وراء المشهد فجعلت المُشاهد يذهب بخياله إلى تخيُل ذلك الموقف وكيف كان يحدث قبل مرض الأب وكيف كانت علاقتهما سويا وما أقساه عليهما لو كان ذلك من عاداتهما فعلاً، فبقدر حنو الموقف تأتى قسوته. 

القسوة التى تجعل سعاد تتقبل خبر دخول والدها المستشفى بذلك البرود أو الهدوء وكأنه شئ روتينى أو شئ مُتوقع، القسوة التى تجعل الإبنة تتأهب لعدم عودة والدها للمنزل بل وتسأل الأم المكلومة، الأم التى نحت الهم والشقاء ملامح وجهها "إحنا هندفن بابا فين؟".



تجسُد المأساة

كل شئ يُحيط بتلك العائلة يتحدث عن تلك الأزمة والمحنة الموجعة شديدة القسوة، لذلك تسكن المُشاهد لقطات ومشاهد بعينها كلقطة الأب فى البلكونة عندما تدخله سعاد ليأخد فائدة شمس الصباح بتعريض يديه وقدميه للشمس فلم ينطق الأب فى ذلك المشهد سوى بضع كلمات "دخلينى... أنام ....مضايق" ولكنها كانت كفيلة بجعل كثيرين ممن كانوا يشاهدون الفيلم بالإنهمار بكاءاً.

 فما أقسى أن ترى شخصاً تحبه عاجزاً أمامك ويتضاعف ذلك الشعور بالعجز مئات المرات إذا كان المريض قريباً منك بل وقد كان هو من إعتاد على الإعتناء بك وليس العكس، فلقد توحدوا مع مأساة الأب ومحنته ومع سعاد وهى تسأله"ليه بس يابا؟".

 فقط بكلمات مقتضبة معدودة نطقها أحمد لطفى من قام بأدء دور الأب بمنتهى الصدق والبراعة والفهم وعدم المبالغة فى تمثيل معاناة المرض وقسوته، تشعر بمدى حسرة وحزن ذلك الأب على نفسه وعلى ما آل إيه حاله.


واقع نحياه ولا نراه

ما عكسته الشخصيات من ردود أفعال طبيعية وإنسانية يحياها الكثيرون، جعلت المشاهد يتوحد ولو للحظات مع أبطال العمل فبالرغم من عدم رغبة الأم فى خروج سعاد خوفاً من أن يحدث مكروهاً للأب بغيابها ولا تقدر على حمله، إلا إنها تسأل سعاد "عايزة فلوس؟"، أم سعاد - ذلك الدور الذى جسدته بإتقان شديد الممثلة سلمى النجار- هى النموذج الأكثر شيوعاً بين أمهات الشعب المصرى، الأم الحمولة التى صاحبت الهم وإستساغت مرارته ، ذلك الهم الذى دفعها رغم قرب موعد نبطشيتها وحاجتها الشديدة للنوم أن تذهب للمطبخ لتقوم بتلك العمال المنزلية، فلقد إعتادت على الشقاء داخل المنزل وخارجه وما أكثر ذلك النموذج فى مجتمعنا المصرى المعاصر، مع إزدياد شريحة الأمهات المُعيلات.

 سعاد نفسها رغم حاجتها المعنوية للخروج والتمسك بالنهار الجديد وسؤالها للأم "ماما شكلى عدل؟" إلا أنها عندما كانت تغادر المنزل وقفت قليلاً تتأمل أمها فى صمت وإحساس بالذنب لخروجها وتركها أمها لتقوم بما كان يجب أن تقوم به هى. ذلك التناقض الإنسانى هو ما جعل من شخصيات الخروج للنهار شديدة التفرد والثراء.



مشهد الميكروباص

مشهد الميكروباص يُلخص فى عدة دقائق مدى ما وصلت إليه قسوة الحياة فى مجتمعنا على تلك الطبقة وتلك الشريحة، فتاة الميكروباص - دعاء عريقات – تحدثت بلسان كثير من فتيات الطبقة الوسطى اللاتى بتن لا يفكرن ولا يتحدثن ولا يخشين سوى شبح العنوسة وتقلصت أحلامهن للخلاص من متاعبهم الأسرية والإجتماعية فى ظل الرجل الذى يُغنى عن ظل الحائط، ولا يدخرون وسيلة لتحقيق تلك الغاية.


الإنسجام بين الغاية والوسيلة

عبرت هالة لطفى بمعادلات بصرية ممتعه وجمالية فى كل كادر ومشهد عما تريد أن تقوله فلا شئ زائد ولا شئ ناقص للحد الذى أوصل بعض تلك الكادرات إلى مصاف أجمل لوحات الفن التشكيلى كلقطة الأم فى غرفة الممرضات بعد نقل الأب للمستشفى أو كاللقطة التى تقف فيها الأم فى المطبخ تغسل البوتجاز وتقف سعاد فى الحمام تلملم شعرها وتتأكد من مظهرها تأهُباً للخروج أو كلقطة بزوج أول خيوط النهار على سعاد بعد أن قضت ليلة عصيبة وهى تقف وتنظر للضريح المقابل لها.

بيد أننى شخصياً لم أستسغ إستخدام Zoom in فى مشهد الميكروباص وهى تتحدث مع الفتاة الأخرى وأيضاً Zoom Out فى مشهد المحل أثناء سؤالها على المرتبة الطبية فقد أعطى إحساس بشئ مصطنع وغير حقيقى إلا إن كانت هالة لطفى به كسر إيهام المتفرج للحظات عن عمد.


أخيراً

الخروج للنهار من وجهة نظرى هو أفضل ما أنتجه نهج السينما المستقلة ولا أقول تيار السينما المستقلة، فمن الأفضل عدم ترديد هذه الكلمة كثيرا كى لا نفرضها واقعاً على حال السينما والصناعة فلابد ألا يكون فقط تياراً بل من الأفضل لجميع الأطراف أن يكون نهجاً جديداً فى صناعة السينما المصرية سواء فى المضمون والكتابة أو على المستوى الإنتاجى.

 الخروج للنهار ليس فيلماً للمشاهدة فقط ليمر من بعد مشاهدته مرور الكرام كغيره من الأفلام ولكنه فيلماً للمعايشة، فيلماً يخلق حالة جدل داخل الإنسان نفسه. قد يمس الفيلم من عايش نفس التجربة بكثير من تفاصيلها، تجربة الخوف من فقد عزيز، ولكنه سيمس كثيرين أيضاً ممن لم يمروا بنفس التجربة لصدقه فى التعبير عنها.


 لذلك سيسكن ذلك الفيلم الكثير ممن سيشاهدونه وسيتملك وجدانهم. الخروج للنهار معزوفة سينمائية فى عشق ولعشق السينما تجسدت خلاله معانى الرقة والعذوبة رغم قسوة الواقع وألمه، فالخروج للنهار حياة وليس مجرد فيلم ما يسببه من وجع هو سر متعته فما أجمل السينما حينما يحترمها ويعشقها بل ويقدرها صانعوها.

No comments:

Post a Comment