Saturday, January 3, 2015

المومياء.. خلود الموتى تأصيل الأحياء


المومياء...... خلود الموتى تأصيل الأحياء
المخرج الذي شغله المستقبل فنظر له من نافذة علي الماضي

كتبت: رشا حسني

التساؤل

الموتى ! هل هذا عيشُنا؟ .... بهذا التساؤل يُلخص شادي عبد السلام حيرة وتردد بطله ونيس ذلك الشاب الذي شاء القدر أن يتكشف أمامه سر والده بعد أن واراه الثري بساعات قليلة ولم يكن سر والده فقط بل أعمامه أيضاً وقبيلة الحُربات كلها، ذاك السر الذي علق عليه ونيس بأن العلم به ذنب والجهل به ذنباً أكبر، ونيس الذي إعتبره الكثيرون هاملت المصري فقد برع شادي من ضمن ما برع في هذا الفيلم في نحت شخصية وملامح ونيس النفسية والروحية قبل ملامحه الشكلية الظاهرية، يكتشف ونيس فجأة أنه وقبيلته يحيون منذ سنين طويلة علي إنتهاك حرمات الأجداد الموتى وإنتهاك حرمة الموت قبل حُرماتهم، فيهيم ونيس علي وجهه متردداً مُتثاقل الخطوات أحياناً سريع الخطوات في أحيانٍ أخري في حين إتخذه أخوه قراره بشكل أسرع فقرر أن يُغادر القرية كلها رافضاً ما يفعله أعمامه فيقومون بقتله وإلقاء جثته في نهر النيل ليظل السر الأليم حبيس صدر ونيس لا يدري ما يفعل به أو بأعمامه وقبيلته.


بناء القصة

بني شادي عبد السلام قوام فيلمه علي واقعة حقيقية حدثت بالفعل لعائلة عبد الرسول بقرية شيخ عبد القرنة والتي تكشف أمرها عام 1881 ولكنها كانت قد عثرت علي المقبرة التي عُرفت إصطلاحاً بعد ذلك في الوسط الأثري والتاريخي بخبيئة الدير البحري في عام 1871 أي قبل عشرة أعوام كاملة من الكشف العلني للخبيئة. عشرة أعوام كاملة تقوم تلك العائلة بسرقة وإنتهاك التاريخ وبيعه بأثمانٍ هي أقل بكثير من قيمة حبة رمل داخل تلك الخبيئة، حتى حدث خلاف مالي بين أفراد العائلة فقرر محمد أحمد عبد الرسول فضح عائلته والإبلاغ عنها وكشف ما هو مستور فقام بإبلاغ السلطات بقنا وتم كشف الخبيئة رسمياً 15 سبتمبر عام 1881. 

لم يُظهر شادي تفاصيل القصة الحقيقية كما حدثت فكيف يفعل وهي بها الكثير لا يتفق لا مع رؤيته ولا مع طرحه فقرر إعادة صياغة ما حدث درامياً من وجهة نظره وله كل الحق الفني في هذا، فجعل ونيس نبيلاً قادته حيرته بين حرصه علي سمعة قبيلته وعلي مصيرها وأيضاً حرصه المُبهم له علي الموتى وإحساسه في أعماقه بأن ما يفعله أعمامه جريمة تلك الحيرة التي جعلته يُقدم علي إخبار الأفندي الأثري الأتي من القاهرة علي غير موعده بسره مهما تكن العواقب، فإظهار ونيس بعكس تلك الصورة النبيلة لم تكن لتحقق لشادي ما أراد من تأصيل الحاضر علي الماضي حتى وإن كان ذلك يتم بشكل لا إرادي. لم يُظهر شادي من جانب الأثريين القائمين علي نقل المومياوات ومحتويات الخبيئة سوي الطاقم المصري فقط تحت إشراف أول أثري مصري أحمد باشا كمال وهو أيضا ما لم يحدث في الحقيقة بل العكس ما حدث فلقد كان الفريق المشرف معظمه من الأجانب منهم علي سبيل المثال العالم الألماني إميل بروجش فلم يكن أحمد باشا كمال حينها سوي أثري مُعاون لهؤلاء العلماء الأجانب يرافقهم ليتعلم منهم ويكتسب خبراتهم، ولكن شادي قرر منذ البداية أن ينهض المصري نفسه وبنفسه مُقرراُ خلوده حتى بعد موته فمن وجهة نظر شادي لم يفن سوي من لم يترك له أثراً يتعلم منه من يجئ بعده من أجيال ليشيدوا علي أطلاله حتى فصول من حضارتهم فتتلخص القصة فيما فعله كلاً من ونيس والأفندي أحمد باشا كمال والضابط. كانت فكرة التأكيد والتأصيل للهوية المصرية هي ما تشغل فكر شادي عبد السلام في تلك الفترة فهو لم يصنع المومياء لسرد حكاية خبيئة الدير البحري بصرياً ولكنه إتخذ منها فقط مُدخلاً لطرح رؤاه.


السرد البصري

ترجع خصوصية فيلم المومياء لخصوصية إستخدام شادي عبد السلام لكافة العناصر السينمائية المعتادة والمُتعارف عليها بشكل غير إعتيادي وغير مسبوق، لذلك جاء فيلم المومياء وليداً سينمائياً غريباً ليس فقط علي الجمهور بل علي السينمائيين أنفسهم. وظف شادي عبد السلام كل العناصر السينمائية ( الديكور-المونتاج –التصوير-الإضاءة- حركة الكاميرا- حركة الممثلين) بشكل يخدم موضوع فيلمه ويتفق مع رؤيته وطرحه لها من خلال الفيلم، حركة الكاميرا البطيئة هي في الواقع ليست بطيئة ولكنها تأملية تربط المُشاهد بالمكان وبالكلمة وبالحدث وبالحركة داخل الكادر تجعله لا شعوريا مرتبطاً بها محاولاً فهمها وإستيعابها.

 فيلم المومياء من الأفلام القليلة أو حقاً النادرة في تاريخ السينما المصرية التي تخلق حالة جدل وتساؤل داخلي عقلي ووجداني فهو فيلماً مُحرضاً علي التفكير طوال أحداثه لذا فهو لا يُريد جمهوراً دأب علي مُشاهدة الأفلام العادية بحركة الكاميرا العادية بالمونتاج القطعي السريع بتبرير السيناريو لأفعال الأبطال بإلقاء الممثلين جملهم برتابة وتكرار معتمدين علي حرفيتهم لا إحساسهم.


 ففي فيلم المومياء ظهرت الفنانة نادية لطفي في عدة مشاهد لا يتجاوز عددها أصابع اليد الواحدة ولكن تلك المشاهد هي التي خلدت وستُخلد موهبة نادية لطفي التمثيلية للأبد فلقد عبرت من خلال عيونها وفقط - فلم تنطق بجملة حوار واحدة في مشاهدها – بما لم تعبر عنه من قبل من خلال سيناريوهات كاملة وأفلام قامت بطولتها من أول مشهد بالفيلم وحتى أخر مشهد به، وهو ما دفع الناقد الكبير الراحل سامي السلاموني أن يكتب عنها "بأن ما مثلته في الفيلم هو أفضل ما مثلته نادية لطفي ربما في عملها السينمائي كله.. فقد قالت بعينيها العميقتين أشياء كثيرة دون أن تنطق حرفاً واحداً في دورها كلها لذي لم يستغرق أكثر من ست لقطات.. ومع ذلك فرضت شخصيتها علي الفيلم كله كنفحة جمال رطبة مرت سريعاً في الفيلم الخانق ومثلت حلماً عابراً لونيس لم يكد يُمسك به في ذروة مأساته حتى أفلت مثل كل شئ من بين يديه".


تخير شادي عبد السلام الأماكن الحقيقية للواقعة الحقيقية ولكن عندما يراها المُشاهد يتولد لديه إحساس بأن ما يراه هو شئ غير واقعي وهو ما أراده شادي أراد تجريد الواقع فأعتمد علي لغة عربية يصفها أنسي أبو سيف بأنها ليست فُصحي صرف ولكنها لغة عربية سليمة فلم يكن من المُمكن أن يتحدث أبطال المومياء لغة عامية حتى وإن كانت راقية فلو حدث هذا كان الفيلم سيفقد كثيراً من تأثيره والأهم من روحه، فروح المومياء والتي تبدو ملحمية لم تكن لتتفق سوي مع عناصر سينمائية تم توظيفها لخدمة العمل الفني لا الواقع وأصل الحكاية، فلم نر بيتاً عادياً ذا أثاث عادي كأي بيت في أية قرية في صعيد مصر ولم نر مظهر واحد من مظاهر الحياة اليومية بالفيلم كل ما رأيناه بالفيلم هو ما أراد شادي أن يُرينا إياه وهو كل شئ له علاقة بالفكرة ويخدم الموضوع ورؤيته في طرحه كتخيره لوحدة الملابس فملابس نساء القرية السوداء تختلف عن ملابس المومستين والتي من بينهما نادية لطفي مع التدقيق الشديد في إضافة بعض الألوان البسيطة علي ردائها وبعض الإكسسوارات التي زينت ملابسها وهو ما لم نراه في ملابس بقية النساء، أيضاً زى العمين هو واحد بنفس طبقاته وألوانه، زى الأفندية ذات اللون الأبيض. إعتمد شادي علي تحديد حركة الممثلين داخل المشاهد وفي هذا توافقاً شديداً مع روح الفيلم ككل فحوار المومياء يعتبر في الأصل هو حوار داخلي داخل نفس كل شخصية خاص بها وقليلة هي الحوارات الطويلة بين شخصيات الفيلم لذ لم تكن أيضاً حركة الممثلين سوي في حدود ضيقة خصوصاً في المشاهد الداخلية ولقد إتسم بعضها بالحركة المسرحية كحركة زوزو حمدي الحكيم في مشهدها مع إبنها ( أحمد حجازي).


تصل بعض تكوينات شادي عبد السلام البصرية في فيلم المومياء إلي حد التابلوهات الفنية الحية كتكوين ونيس وهو يتسمع لحوار أخاه مع والدته واقفاً علي سلالم تشبه كثيراً سلالم مقابر وادي الملوك خلفه في عمق المشهد ضوء ربما يعبر عن إقتناع ونيس بما يقوله وقرره أخوه وربما هو إرهاصة لما سيفعله في أخر الفيلم ويخلصه من حيرته وسبب عذابه، أيضاً مشهد زيارة ونيس لقبر والده في المساء وصولاً لتكوينات أخر مشهد بالفيلم والذي تم تصويره علي مدار 40 يوماً لتخير الساعة التي تسبق الشروق وللحفاظ علي وحدة وتدرج اللوان داخل المشهد وهو مشهد خط سير موكب المومياوات وصولاً به إلي مركب الأفندية وإصرار شادي عبد السلام علي تصوير ذلك المشهد في تلك الساعة التي تسبق الشروق مباشرة كي يؤكد علي أهمية لحظة لحظة الشروق وما تحمله من دلالات علي بعث الموتي من جديد ثم مرور الموكب علي صروح المعابد الشاهقة وكأنها تنظر في عزة لبعث من أمروا بتشيدها ثم مرافقة النساء للموكب في تكتلات وكأنهن نائحات الأساطير المصرية القديمة قد بُعثن من جديد هن أيضاً ويقف بعض الرجال ليُقدموا التحية التي تبدو لو أنها للضابط ولكنها في الصل لم تكن سوي لموتاهم الذين يفارقونهم ويفارقون أرضهم بعد ألاف السنين.



مارتن سكورسيزي يبعث المومياء من جديد

أحيا المخرج العالمي مارتن سكورسيزي فيلم المومياء بل وأعطي له قبلة الحياة من خلال قيام مؤسسة سينما العالم تلك المؤسسة السينمائية التي يُشرف عليها بترميم النسخة الأصلية لفيلم المومياء وإعادة تصحيح ألوانها وكان ذلك عام 2009 وهو نفس العام الذي تم فيه إختيار مهرجان كان للفيلم المومياء لعرضه ضمن إحتفالية كلاسيكيات كان وليس هذا غريباً علي فيلم المومياء ولا علي قيمة وقامة شادي عبد السلام الفنية والفكرية والثقافية وبالطبع السينمائية، فما أضافه شادي عبد السلام للفن وللوطن وللمواطن المصري من خلال تجربته الروائية الطويلة الوحيدة  لا يمكن أن ينكره سوي جاحد، فيكفي أن فيلم المومياء هو الفيلم المصري الوحيد المعروف والمشهور عالمياً فحينما يتم ذكر مصر في أي محفل سينمائي دولي أو يقع الإختيار علي تكريم أو حتى الإشادة بالسينما المصرية لا يُذكر سوي فيلم المومياء ... المومياء وفقط ، وهو بالطبع ما أراده شادي بالفعل ليس لشخصه فقط بل لوطنه ولشعب وطنه أراد لهم الخلود بعد بعث الموت أراد للمصري أن يحرص علي أن يظل مُحافظاً علي هويته المُستمدة من جذوره المُستشرفة لمستقبله ولا يسعنا في كل مرة نتذكر فيها شادي عبد السلام سوي تذكر الكلمات التي إختتم بها شريطه السينمائي الفريد "المومياء" :

إنهض فلن تفني
لقد نوديت بإسمك
لقد بُعثت

No comments:

Post a Comment